كان الشيخ عبد الصمد رجل دين و
عبادة تربى في بيت عز و سيادة، وحيد الأبوين، حفظ القرآن و هو ابن السابعة و تعلم
بعض أصول قواعد اللغة العربية و الدين، فترعرع على حب الله و الوطن.......
و حين صار شابا كان يساعد أباه
في فلاحة الأرض و في عملية جمع المحصول...و لما أصبح شابا يافعا فكر والداه في
تزويجه رغم صغر سنه طبقا للعادات و التقاليد حيث أصبح زواج عبد الصمد شغل أمه
الشاغل، فبدأت تبحث له عن زوجة تراها كفء له ، فأصبحت تزور أقاربها و جيرانها بحثا
عن التي ستهبها ابنها إلى أن وقع اختيارها على شابة بشوشة جميلة حسنة الأخلاق و
الخلق تدعى زهرة :هي الأخرى وحيدة والديها ....فتمت الخطبة و عقد القران و حدد
موعد الزفاف بعد شهر.
وجاء اليوم الموعود الذي كان
يحلم به عبد الصمد ، كيف لا و هو اليوم الذي انتظره بفارغ الصبر ليلتقي زوجته
الحبيبة التي لطالما حدثته أمه عنها و عن جمالها و أدبها .هذا اليوم الذي حضر فيه
جميع الأحباب و الأقارب و الأصحاب حيث كانت حفلة عظيمة...و مرت الأيام و عبد الصمد
سابح في بحر من السعادة و الرضا التي عرف طعمها و هو في قفص الزوجية مع زوجته
زهرة، و الرضا الذي كان يغترفه من حضن والديه العجوزين اللذين كان يرعاهما بمساعدة
زوجته التي كانت تعتبرهما كأبويها...إلى أن فجع في أحد الأيام بوفاتهما معا فجأة
فحزن عليهما حزنا شديدا فهو لا شيء بدونهما...و لكن هذه مشيئة الله و سنة
الحياة.
"عندي مفاجأة ..استيقظ كفاك نوما
"بهذه الجملة أيقظت زهرة زوجها في إحدى الصباحيات و أخبرته بأنها حامل، فكانت
فرحته لا توصف و بعد تسعة أشهر أصبح أبا لطفل أسماه يوسف، و بعد ذلك بعامين كان
أبا مرة أخرى لابن آخر اسماه خالد.فرباهما تربية حسنة، لكن أمله خاب في ابنه الأكبر الذي
كان يزيد طيشا كلما كبر رغم نصائح أبيه و أمه له و التي كان يلقي بها عرض الحائط.بينما
كان خالد عاقلا و متزنا، ذكيا هو الآخر كان يسيئه أمر و حال أخيه يوسف و كانت
حصرته تزيد كلما رأى الحزن و خيبة الأمل في عيني والديه . و في احد الأيام فاجأ يوسف والديه برغبته في الزواج ،حاول عبد الصمد و ابنه خالد إقناعه بالعدول عن فكرته هاته لأسباب
عدة لكن دون جدوى، في حين كانت أمه زهرة تساعده و تطالب زوجها بتنفيذ رغبة ابنها اعتقادا أن الزواج سيرجعه إلى رشده
و يذيقه طعم الاستقرار...لكن كل ما حلمت به الأم أصبح هباء منثورا، فبعدما أصبح زوجا لفتاة آية في الجمال
و غاية في الأدب و الأخلاق، و أبا لطفل و طفلة لم يعد يدخل إلى البيت إلا في
الساعات الأولى للصباح و أغرق أباه في
مشاكل جديدة كما أصبح يطالب أباه بالسفر إلى الخارج قصد تحسين وضعيته
الاجتماعية...رغم المعارضة الشديدة من طرف الأهل، توفق في تنفيذ قراره و سافر إلى
فرنسا تاركا عشه الصغير في كنف أبيه الذي عرف مرارة الحياة منذ أصبح أبا له.
أما يوسف فبعد وصوله إلى المهجر
ازداد طيشا، فهناك أصبحت له الحرية التامة: فليس هناك الأب الذي كان دائم الخلاف
معه، و لا أمه التي كانت تعاتبه، و لا الزوجة التي كانت تغرقه في بحر من الدموع
بكاء على سوء حالها معه، و الأخ الذي كان يراقب أعماله من بعيد بنظرات كلها أسى و
أسف، فانقطعت أخباره عن أهله لمدة طويلة فاقت ستة أشهر. و بعد مرور سنة على سفره
وقع ما لم يكن بحسبان عائلته حيث جاءهم
رجل أخبرهم بوفاة يوسف في حادثة سير و أنه قد دفن في مقبرة المجهولين لأن جميع
أوراقه كانت قد ضاعت منه ...فكان الخبر بمثابة الصاعقة التي نزلت في فناء من زجاج
، فطارت شظايا هذا الزجاج لتنغرز في صدور
أفراد الأسرة جميعا . فحزن الأبوان و أصبحت الأم عاجزة عن المشي ، أما الزوجة
المسكينة غدت عيناها الجميلتان سابحتان في دموع دائمة السيلان كلما تذكرت حضها
العاثر و زواجها الفاشل و تزداد حزنا كلما
رأت طفليها اليتيمين، أما الأخ، فأصبح دائم السكوت و الحزن على أخيه الذي كان
يتوقع له هذا المصير بسبب طيشه و عدم طاعة والديه اللذين عملا كل ما في وسعهما
لتربيته و لكن الرياح تجري بمالا تشتهيه السفن و لا حول و لا قوة إلا بالله.
و مرت الأيام و اشتد الضيق
بزوجة يوسف و ملت حياتها و قررت الذهاب لبيت أهلها، لكن مفاجأة أخرى صادفتها حيث
أن خالد طلب الزواج منها...فوجدت فيه الزوج الوفي ، الزوج الذي حماها و حمى طفليها
من قهر الزمان فعاش الجميع في سعادة .و فيما بعد رزق خالد بطفلين فكانت فرحة أبويه
فرحة عظيمة كيف لا و قد جمع شمل الأسرة و شمل طفلي أخيه و عوضهما حنان أبيهما الذي
كانا يفتقدانه.
و شاءت الأقدار مرة أخرى أن
تعود الأسرة السعيدة إلى الهم و المشاكل، فبينما عبد الصمد جالس أمام عتبة منزله
يلاعب أحد أحفاده إذ بسيارة فخمة تقف أمامه و ينزل منها رجل أنيق جميل المنظر و
اتجه نحوه و انحنى ليقبل يديه ثم قال:"صباح الخير يا أبي اشتقت إليك
كثيرا" ذهل عبد الصمد إذ كيف برجل في مثل هذه الهيئة يقول له أبي، و هو يعلم أن ليس له سوى ابنين الأول مات و الثاني
ذهب إلى عمله لكن رغم دهشته، رد عبد الصمد باحترام:"صباح الخير يا ولدي ! " فلاحظ الرجل ذهول عبد
الصمد فقال بنبرة حانية:"أنا.....أنا يوسف !يوسف
ابنك !"و
بعد أن تأكد عبد الصمد بأن ذاك الرجل هو ابنه بواسطة علامة كانت تعلو حاجبه
الأيمن، تهلهل وجهه فرحة و دلف البيت مهرولا و مناديا زوجته:"زهرة.....زهرة..يوسف
حي ...يوسف لم يمت" فردت و الدموع تنهمر على خديها:"أ مسك الجنون يا
رجل..عد إلى رشدك و استغفر الله و ادع لابنك بالرحمة" و في تلك اللحظة دخل
يوسف مناديا:"أمي..أمي ! " و ما إن رأته حتى دب الدم في قدميها و قامت
من كرسيها محتضنة ابنها الذي غاب عنها لمدة 10سنوات...و ما هي إلا لحظات حتى دخل
خالد ليرى أمه واقفة على قدميها بعدما تركها في مكانها كالعادة و بعدما أصابها
الشلل و ما زاد دهشته احتضانها للرجل الغريب حاول استفسار الأمر من أبيه الذي بدت
عليه علامات البهجة و الفرحة و السرور ففهم أن الرجل الواقف هناك هو أخوه فضمه إلى
صدره بحنان، و بعد ذلك سأل يوسف عن زوجته و طفليه و استفسر عن أمر الطفل الصغير
الذي كان جالسا بحضن أبيه ، فساد الصمت بين أفراد الأسرة.لكن خالد قرر إخبار أخيه
بالحقيقة..الحقيقة المرة..فندم يوسف ندما شديدا :ندم على عصيانه أوامر والديه
..ندم على إتباعه أصدقاء السوء ..ندم على طيشه الذي أغرقه في المشاكل..ندم على
الصداقة التي عقدها مع ذلك الرجل الكذاب الذي أشاع خبر موته في حادثة سير..ندم على
عدم اتصاله بأهله بسبب فكرة عدم العودة لأهله حتى يصبح من الأغنياء ذوي المال و
الجاه و السلطة.فها هو اليوم غني لكنه افتقر...افتقر حب والديه و حب زوجته
التي هي في نفس الوقت زوجة أخيه فكيف له بمواجهة طفليه ؟كيف له أن يفصل زوجته عن
أخيه ؟بل و هل سترضى به مرة أخرى زوجا لها ؟ فكيف له الإفلات من نظراتها ؟كيف
سيواجه المجتمع ؟و ما مصير طفلي أخيه ؟كل هذه الأسئلة راجت في ذهنه دون أن يجد الجواب الشافي و لو لسؤال
واحد....................استيقظ مذعورا على صوت المنبه ... نعم لم يكن إلا حلما من
تلك الأحلام المزعجة التي بدأت تراوده هذه الأيام بعد أن أصبح أمر السفر يشغل كل تفكيره .... انتبه إلى صوت
أمه التي تنادي من أسفل السلم .... نفض عنه الفراش بسرعة ليقوم لكنه توقف عند رؤية
صاحبة ذلك الوجه الملائكي الممددة بجانبه بإعياء واضح,فامتدت كفه لتلتقط كفها ثم
طبع قبلة حانية عليها ...و نهض لينزل السلم في حركات طفولية استغرب لها والداه لكن
ما زاد استغرابهما انهياله على يديهما بوابل من القبلات ليعبر عن أسفه عن عقوقهما
و لإعلانه صفحة جديدة عنوانها الطاعة و الرضى .انضم الجميع لطاولة الإفطار اتخذ
يوسف مقعدا مقابلا لخالد و ما لبث أن انعقد حاجباه في ضيق واضح حين وقعت عيناه على
أخيه ...و بعد الإفطار تعمد يوسف الانفراد بأخيه ,فأرسل ابنيه ليلعبا في الحديقة
,و انصرف الأب لأداء صلاة الضحى ,أما زوجته فهبت لمساعدة أمه في المطبخ ...حاول
استجماع أفكاره لتبرير تصرفه الفظ ذاك
للحظات كان الصمت سيد الموقف إلى أن وقف خالد لينصرف حينها أمسك يوسف بيده
و لفظ تلك العبارة التي لم يكن يسمح له كبرياؤه بالتلفظ بها خصوصا لأخيه الأصغر .... قال "أنا
آسف..." ظهر الاندهاش على ملامح خالد و لم يكن يوسف أقل منه دهشة حين عانقه
أخوه بحرارة فبدأ يبكي معبرا عن فرحته بأخيه الذي بدأ أخيرا يقدر مشاعر الحب التي
يكنها له.
النهاية
La fin
The end