.بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
فقد استُوقِفتُ على فتوى للشيخ سلمان العودة منشورة في موقعه، تحت عنوان " تكفير الأعيان "، فيما يلي نص السؤال، ونص الجواب:
نص السؤال الذي وُجِّه للشيخ سلمان: يبني الشيخ عبد المنعم مصطفى حليمة في أحد مقالاته أحكاماً شرعية على الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بناء على مواقفه وكلامه في خُطبه، والتي هي موجودة في موقعه على الإنترنت. فبالله عليك يا شيخنا الفاضل الرجاء قراءة المقالة وموافاتي برأيك عنها، أي: هل الشيخ عبد المنعم وافق الحق في تكفيره للبوطي؟ وهل الضوابط الشرعية التي أوردها في مقاله قد أنزلت بشكل صحيح على الرجل؟ أم كان مخطئاً فيها، أم ماذا؟ لأننا طلاب حق ونعرف أن الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال، لا سيما أن من الذين اطلعوا على المقالة وأخذوا على الشيخ عبد المنعم قسوته أو جراءته إنما تعللوا بكلام ليس له ضوابط شرعية. التكفير كلمة ليست سهلة أو لا أحد يكفر إلا الله، وما إلى ذلك؟
نص جواب الشيخ عن السؤال أعلاه:" عفواً، تكفير الأعيان والأشخاص مزلق خطير كائناً ما كان خطؤهم، وهو أول فتنة حدثت في الإسلام، وصح التحذير منها في السنة من طرق كثيرة، وقد واجه الأئمة شيئاً من هذا ولم يكونوا يكفرون أعيان الأشخاص، وإن كان في مقالاتهم ما هو كفر، ومن تأمل كلام ابن تيمية في هذا وجد عجباً. غفر الله للجميع، وهدانا إلى سواء السبيل " انتهى الجواب.
أقول: رغم أن الجواب جاء مقتضباً لا يتعدى الأربعة أسطر، إلا أنه حوى على أخطاء فادحة لا تليق بالشيخ، ولا بمكانته العلمية، ولا بالأمانة الملقاة على عاتقه كداعية إلى الله .. لذا تعين التنبيه والبيان:
قال:" تكفير الأعيان والأشخاص مزلقٌ خطير ..".
أقول: قوله " تكفير الأعيان والأشخاص "؛ عام وشامل لمطلق الأعيان والأشخاص؛ بما في ذلك أعيان وأشخاص الكفار الأصليين .. وهذا خطأ ظاهر .. والصواب أن يقيد إطلاقه فيقول:" تكفير أعيان وأشخاص المسلمين مزلق خطير .."، لأن تكفير الكافرين الذين كفرهم الله تعالى وحكم عليهم بالكفر .. واجب شرعي لا يجوز التوقف أو التردد فيه.
فكما أن تكفير المسلم مزلق خطير كذلك عدم تكفير الكافر مزلقٌ خطير لا تُحمد عُقباه
.. فقد نقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إجماع أهل العلم على تكفير من لا يُكفِّر الكافر أو شكَّ في كفره .. لأن عدم تكفير الكافر بعينه يتضمن تعطيل حكم الله ورده .. ووصف الأشياء بغير وصف الله تعالى لها!
قال:" كائناً ما كان خطؤه ..".
أقول: قوله " كائناً ما كان خطؤه " هو أيضاً عام وشامل لمطلق الخطأ بما في ذلك خطأ الكفر والشرك .. والزندقة والردة مهما كان مغلظاً ومركباً .. وهذا خطأ ظاهر .. فظاهر قول الشيخ أنه يمنع من تكفير مطلق الأعيان والأشخاص الكافرين المجرمين مهما كان كفرهم ظاهراً وبواحاً .. وهذا مزلق خطير تقدمت الإشارة إليه أعلاه!
قال:" وهو أول فتنة حدثت في الإسلام ..".
أقول: وهذا من التلبيس على الناس .. فليس أول فتنة حدثت في الإسلام تكفير الأعيان والأشخاص .. وإن كان يعني فتنة الغلاة الخوارج ـ كما هو ظاهر من كلامه ـ فهؤلاء لم تكن فتنتهم تكفير الأعيان والأشخاص ممن كفَّرهم الشَّارع وأوجب كفرهم وتكفيرهم .. وإنما كانت فتنتهم من جهة تكفيرهم لكبار الصحابة .. وقولهم بكفر ذوي الكبائر من أهل القبلة والتوحيد .. فهل نحن كذلك حتى يُشير إليهم الدكتور، ويستدل بهم في معرض السؤال عنا وعن منهجنا؟!
قال:" وصح التحذير منها في السُّنَّة من طرق كثيرة ..".
أقول: وهذا خطأ ظاهر .. وهو من التلبيس على الناس أمر دينهم .. فالسُّنة لم تحذر من تكفير مطلق الأعيان والأشخاص كما زعم الشيخ .. وإنما حذَّرت من تكفير المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر والشرك .. أو تكفيرهم بالظن والمتشابهات .. وبما لا يوجب التكفير .. فهلاَّ أشار الشيخ إلى ذلك فاستراح وأراح؟!
قال:" وقد واجه الأئمة شيئاً من هذا ولم يكونوا يكفرون أعيان الأشخاص، وإن كان في مقالاتهم ما هو كفر ..".
أقول: هذا النفي المطلق عن أئمة العلم وأنهم كانوا لا يكفرون أعيان الأشخاص .. هو من الظلم والتقوِّل عليهم بما لا يصح عنهم عن سابق علم وإصرار .. لأن الشيخ ليس مثله من يجهل مثل هذا .. إذ ما أكثر الشواهد والأدلة الدالة على تكفير أئمة العلم لأعيانٍ وأشخاصٍ أوجب الشرع تكفيرهم.
وعلى رأس هؤلاء الأئمة سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه، كما في الحديث عن أنس قال: قدم على النبي نفر من عكل فأسلموا، فاجتووا المدينة فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة
فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا، فارتدوا، فقتلوا رعاتهم واستاقوا الإبل. فبعث في آثارهم فأتى بهم، فقطع أيديَهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. وفي رواية: ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا.
فهذا تكفير عام وتكفير للقول أو الفعل، أم أنه تكفير أعيان وأشخاص محددين بأعيانهم؟!
وعن البراء بن عازب قال: لقيتُ عمي ومعه راية، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إلى رجلٍ نكحَ امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله "[ صحيح سنن أبي داود:3744].
فهذه قضية عامة وتكفير عام مجرد، أم قضية محددة وتكفير شخص بعينه ..؟!
وفي صحيح البخاري وغيره عن أنس بن مالك ، أن رسول الله دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجلٌ، فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ـ تائباً وطالباً للأمان!ـ فقال:" اقتلوه ". وذلك بسبب أنه ضم إلى ردته شتم النبي والطعن بالدين .. ومحاربة الإسلام والمسلمين .. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا حكم عام على القول أو الفعل مجرد عن الأعيان، أم أنه حكم على شخص معين ومحدد بالكفر والردة والقتل ..؟!
وعن ابن عباس، أن أعمى كانت له أم ولد، تشتم النبي ، وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فال تنزجر، قال:فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها .. فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله ، فجمع الناس فقال:" أنشد الله رجلاً فعل ما فعل، لي عليه حق، إلا قام " فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي " ألا اشهدوا أن دمها هدر"[ ].
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين محدد ..؟!
وعن ابن عباس قال: هجت امرأة من خطمة ـ وهي العصماء بنت مروا ن ـ النبي ، فقال:"من لي بها ؟"، فقام رجل من قومها وهو عمير بن عدي الحطمي، فقال: أنا يا رسول الله، فنهض فقتلها، فأخبر النبي، فقال:" لا ينتطِحُ فيه عنزان"، قال عمير: فالتفت النبي إلى من حوله فقال: "إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجلٍ نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي"[ ].
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين ..؟!
وكذلك المرأة التي غنت بهجاء النبي ، كتب فيها أبو بكر الصديق ، إلى المهاجر بن أبي ربيعة: لولا ماسبقتني فيها لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر[ ].
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين ..؟!
قال ابن تيمية في الصارم، ص368: أمر بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح من غير استتابة لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال ولم يتب قبل القدرة عليه، وأمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك، وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم، وأمر بقتل ابن أبي سرح لما ضم إلى ردته الطعن عليه والإفتراء ا- هـ.
فهذا تكفير عام وتكفير مجرد للقول أو الفعل، أم أنه تكفير أعيان وأشخاص محددين بأعيانهم؟!
روى أبو أدريس قال: أُتي علي بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام، فسألهم فجحدوا، فقامت عليهم البينة العدول، قال: فقتلهم ولم يستتبهم [ ].
فهذا تكفير عام وتكفير مجرد للقول أو الفعل، أم أنه تكفير أعيان وأشخاص محددين بأعيانهم ..؟!
وقد روي أن رجلاً قال في مجلس علي :" ما قتل كعب بن الأشرف إلا غدراً! فأمر علي بضرب عنقه ".
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين ..؟!
وعن عبد الله بن عتبة، قال: أخذ ابن مسعود قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، قال: فكتب فيهم إلى عثمان بن عفان ، فكتب إليه أن أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوا فخل عنهم، وإن لم يقبلوا فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله[ ].
فهذا تكفير عام وتكفير مجرد للقول أو الفعل، أم أنه تكفير أعيان وأشخاص محددين بأعيانهم ..؟!
وفي الزواجر لابن الهيتمي قال: وقد قتل خالد بن الوليد من قال له" عند صاحبكم " وعد هذه الكلمة تنقيصاً له .
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين محدد ..؟!
ولما قاتل أبو بكر الصيق ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .. أهل الردة .. هل كان يُقاتل الردة كمعنى مجرد معلق في الفضاء .. أم أنه كان يُقاتل وينازل المرتدين بأشخاصهم وأعيانهم؟!
قال عبد الله، سئل أبي عن رجل قال: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك. قال أبي ـ أحمد بن حنبل ـ: هذا مرتد عن الإسلام، قلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: نعم، نضرب عنقه.
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين محدد ..؟!
قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن الحسين بن علي الكرابيسي ـ وكان من الفقهاء ـ يقول: إن لفظي بالقرآن مخلوق .. ومن لم يقل إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال الإمام أحمد: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا هذا؟![ ].
فهذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين محدد ..؟!
وقال رحمه الله: كان يوجه إلي ـ أي في سجنه في المحنة ـ كل يوم برجلين: أحدهما يُقال له أحمد بن رَباح، والآخر أبو شُعيب الحجام، فلا يزالان يُناظراني حتى إذا أرادا الانصراف دُعي بقيد فزِيد في قيودي. قال: فصار في رجله أربعة أقياد.
قال الإمام رحمه الله: فلما كان في اليوم الثالث دخلَ عليَّ أحد الرجلين فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: علمُ الله مخلوق، فقلت: كفَرْتَ، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق ابن إبراهيم: إن هذا رسولُ أمير المؤمنين! فقلت له: إن هذا قد كَفَرَ[ ].
والسؤال الذي يطرح نفسه: فهل هذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين محدد ..؟!
قال القاضي عياض في كتابه الشفا: وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عَجَبَ[ ]، وكان خرج يوماً فأخذه المطر فقال:"بدأ الخراز[ ] يرش جلوده!!"، وكان بعض الفقهاء بها قد توقفوا عن سفك دمه. فقال ابن حبيب: دمه في غيض، أيُشتم ربٌ عبدناه ثم لا ننتصر له ؟! إنَّا إذاً لعبيد سوءٍ ما نحن له بعابدين وبكى. ورُفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي وكانت " عَجب" عمة هذا المطلوب من حظاياه[ ]، وأُعلم باختلاف الفقهاء فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه وأمر بقتله، فقتل وصُلب بحضرة الفقيهين، وعزل القاضي موسى بن زياد لتهمته بالمداهنة في هذه القضية، ووبَّخ بقية الفقهاء وسبهم ا- هـ.
والسؤال الذي يطرح نفسه: فهل هذا حكم عام وتكفير عام .. أم أنه حكم وكذلك تكفير لشخص معين محدد ..؟!
أخرج ابن أبي شيبة في كتابه الإيمان عن طاوس، قال:" عجباً لإخواننا من أهل العراق يُسمون الحجَّاج مؤمناً ".
وأخرج عن الشعبي قال:" أشهد أنه مؤمنٌ بالطاغوت، كافرٌ بالله؛ يعني الحجاج "[ ].